الخميس، سبتمبر 02، 2004

الميتوس المكسور:إنتصار جزئي.. هزيمة ساحقة



في زمن الأساطير , كان على الملك مينوس أن ينتظر بشرى انتصار إبنه "ثيسيوس"على "المينوتور" على هيئة شراع سفينة أبيض يرتفع في مدى إيجة.
عشق ثيسيوس أميرة كريت التي ساعدته على قتل أخيها "مينوتور"- نصف الثور ونصف الرجل- , فنسي رفع الشراع في طريق العودة, وانتحر مينوس بالقفز من فوق صخرة على شاطئ "ميتوس".
في الوجدان الإغريقي, فالبشري, صارت الميتوس تعني الأسطورة, لكنها ليست تعريفا مجردا للحكاية التي تفوق الخيال, هي أسطورة ملآى بالدم, عصية على الكسر. هي حقيقة ثابتة دون أن تثار الحاجة لإثباتها, ودون أن يتمكن المنطق المجرد من تجريدها من "واقعيتها", أمرا يشبه "الله" مثلا.
تبقى مسائل "التراجيديا" في بعدها الجمعي, واحدة وثابتة رغم تباعد الأزمنة. ويبدو أن الفلسطينيين يستمدون في لحظة الهزيمة التاريخية التي تمتد على امتداد وجودهم , بعضا من تراثهم الكريتي, فالذاكرة الجمعية تنتقل في المجتمع البشري كالشفرة الوراثية, وحكمة المهزوم, التي نبرع كفلسطينيين, في التفلت منها والتشبث بأهداف إيفوريا الانتصار,هروبا منها, لم تستطع حتى اللحظة أن تنقذنا من غيلة جنون الخطاب البونابارتي الذي يبرع الطرفان الأقوى في الثورة, لحظيا (السلطة والأصولية الإسلامية) في أدائه.
معركة الأمعاء الخاوية انتهت, ولما نعد خسائرنا بعد, والصورة في طريقها للإتضاح, بالرغم من كل هذا الفراغ الملون الذي يسبغه "قادة الثورة" على نتائجها *
في جدلية النضال اليومي, التأقلم الرافض, الاشتباك اليومي مع العدو الذي يتحكم بمساحة الضوء و جرعة الهواء المسموحة, يبدأ المعتقلون الفلسطينيون معركة جديدة, بقوانين جديدة كليا.
هذه الأرض المحروقة تحت اقدام المعتقلين ومن حولهم تشير إلى الهزيمة الأخلاقية التي منيت بها الحركة الأسيرة, هزيمة في صميم "ميتوس"التراث الثوري في فلسطين, ذلك الميتوس الذي يتحدث عن " عصيان الحركة الأسيرة على الكسر" بالاستناد إلى كون الأسرى يقفون أمام جدار أخير لا يمكن التراجع عنه.
بالتأسيس على هذا الميتوس, تمكن المعتقلون الفلسطينيون من انتزاع عشرات الامتيازات من أشداق المخابرات الصهيونية التي كانت تدير العملية الاعتقالية بأسرها. هذا الجهاز الذي كان يواصل حربا ممنهجة على أجساد ونفوس المعتقلين بهدف إخضاعهم, و جند لعملية الاخضاع المتواصل هذه الكثير من قدراته وطواقمه. شملت العملية على مدار سنين طوال تدخلات مخابراتية في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمناضل المعتقل, بدءا من اختيار نوعية الطعام المقدم , و تصميم السجون وساحاتها الداخلية وغرف الزيارة, إلى التدخل في "من" و "كيف" يزور المناضل المعتقل.
عبر سنين طوال, وبالاستناد إلى عقلية "ليس لدينا ما نخسره" تمكن المعتقلون وعبر معارك دموية ومريرة مع واجهة المخابرات (خدمات إدارة السجون العامة) إقامة جمهورياتهم الخاصة داخل المعتقلات, بدءا من الثمانينات, مثلا, صار على مدير المعتقل الصهيوني أن يقدم طلبا شفهيا مسبقا, على صيغة إعلام قابل للتشاور, إلى نظيره الفلسطيني (ممثل المعتقل) لدى إجراء أي تغيير ذي معنى في حياة المعتقلين اليومية. تمكن المعتقلون عبر حركاتهم المطلبية من التوصل إلى وضع يُسمح فيه بإدخال تلفزيون إلى كل غرفة مساجين محكومين, إدخال مواد غذائية وكتب وصحف و تمكين المعتقلين من تقديم امتحانات الثانوية العامة داخل معتقلاتهم, بل والتقدم لشهادات جامعية من داخل السجون.

لم يكن أمام الجهاز المخابراتي الصهيوني سوى الإذعان أمام مطالب المعتقلين, إذ أن الحركة الأسيرة كانت فيما مضى تحرك الشارع الفلسطيني بأكمله,وكانت حالة التوازن هذه التي يتقدم عبرها المعتقلون الفلسطينيون بحذر من انجاز إلى إنجاز دون الإخلال بحالة يثبت فيها التوتر عند نقطة معينة تحددها الحركة الأسيرة نفسها,نقطة على شفى التفجير, وفي طرف التفاهمات اليومية القابلة دوما للتغيير وفقا لإرادة المناضلين. وكانت الحالة تجد أعداء يوميين لها في الطرف الإسرائيلي.
كان على هذا "الميتوس" أن ينكسر, ووجدت مخابرات العدو في "إتفاق أوسلو" منفذا يمكن لها أن تكسر عبره ظهر الحركة الأسيرة وتثني إرادتها.
بغباء مطلق وافق عرفات (إبن الستين شرموطة) على آلية تفريغ للمعتقلات من أكبر قدر من "الميتوس" مع أقل قدر ممكن من البشر. لذا, فقد اشترطت اسرائيل على السلطة أن تطلب من إسرائيل (نعم.. هذه هي الصيغة المقصودة, رغم ما يبدو عليها من ارتباك) أن يقوم المعتقلون الفلسطينيون بالتوقيع على وثيقة العار, وهي الوثيقة التي يستنكر من خلالها المعتقل ما قام به من "أعمال إرهابية", و يتعهد عبرها بـ"دعم جهود العملية السلمية".
بعد هذه الخلخلة التي أصابت وحدة الموقف في الحركة الأسيرة في صميم مشروعية وجودها ونضالها, منهجت المخابرات الصهيونية آليات عزل القيادات الأسيرة وتحويل المعتقلات إلى تجمعات بشرية فاقدة لروح الجماعة, وبعيدة كل البعد عن التقاليد الثورية, ونجحت إلى حد بعيد في ما ترمي إليه, وبالإمكان القول أن نتائج هذا كله قد تبدّت في إضراب الـ95 حيث ظهر التشقق في جدران ما اصطلح على تسميته ب" القلاع الاعتقالية" التي حلت محل تسميات "السجون".

يتبع
_____
*صرح هشام عبد الرازق, وزير شؤون الاسرى, مثلا أن المعتقلين قد تمكنوا من تحصيل 90% من مطالبهم, لكنه أكد, في المقابل أنه لا يعلم شيئا عن حقيقة الاتفاق الذي قال بأن القيادة المعزولة قد تمكنت من عقده مع سلطة السجون الاسرائيلية