السبت، نوفمبر 27، 2004

Tumbleweed



"حين نعتاد الرحيل

مرة.. مرات

تصبح كل الأمكنة

زبدا نطفو عليه"

محمود درويش

ترتحل عن مكانك الخاص- المؤقت, إلى مؤقت آخر, فتشتعل بالحنين إلى مكان أول وثابت, مكان لا تخلع ريح طارئة فيه نوافذك, غرفة صغيرة تلمّ أوجاعك وأحلامك. مكان يمكنك فيه أن تربي زهرة في أصيص لعين وبني وخشن تضعه على شباك غرفة نومك. فراش تعرق فيه رائحتك الخاصة. فراش لم ينم عليه أحد غيرك, قبلك, أو فراش لن يشم أحد فيه بعدك رائحة أحلامك التي تسيل ليلا فتخصب الوسادة بالنجوم التي تتناسل حلما إثر حلم إثر حلم, إلى أن يسكر الناس من وجعك الذي يخفق, أو تموت.

هنالك نبات صحراوي اسمه

" tumbleweed "

ينبت في الغرب,نبات ليس له جذور, هو باختصار يرفع شراعه للريح, صدقوا, هنالك نبات كهذا.

هذه النبتة الشوكية التي تتكور على نفسها ككرة ضخمة ومفرغة, ظلت تتدحرج في الصحراء منذ القدم, إلى أن جاء كلينت ايستوود بأفلام الكاوبوي لتتخلد معه في مشاهد الصراع النهائي, مرفقة بموسيقا الهيرمونيكا, تمرق هكذا بطرفة عين في الزقاق الرئيسي أمام البار, تمرق بجانب المهماز الذي يظل ينكش عجيزة الحصان إلى أن يمزق الصحراء أو تتمزق مؤخرته, أيهما يأتي أولا.

المهم, النبتة كلنا نعرفها, ولم نتساءل يوما عن سر كعبولة العشب الشائك هذه التي تمرق من أمامنا, قبل أن تواصل طريقها إلى المجهول.

لعلنا,نحن الذين نعرف الزيتون والنخيل "الجذري" جدا لا نؤمن بنبتة دون جذور,لا يثيرنا هذا النوع من الحياة.

في الغرب الأمر يختلف, هنالك مجتمع كامل قلع جذوره بعناية وبقصد, عفوا, لعل "قص جذوره" هي الكلمة المناسبة, هو لم يقلعها بمعنى ابقى على بعضها ملتصقا بالجذع, هو قصها نهائيا, ومضى نحو مجهول تتبدى فيه الآن نهاية العالم المشحونة بالإحتمالات: ثقب الأوزون,حريق نووي أو عولمة, تعددت الأسباب.... وهذه النبتة تحديدا هي تكثيف كاريكاتوري للحالة الأميركية.

هؤلاء المقطوعي الجذور ينتقمون من العالم القديم الآن, العالم الذي الجذور فيه أهم بكثير من النبات الحي.

(لهذا نقتتل هنا على الأقصى والهيكل قبل أن نفهم أن المسألة قد تكون أبسط من هذا بكثير: في هذا العالم نحن,ربما,بحاجة إلى شارع بلا حاجز عسكري, إلى أرض نبني عليها بيوتنا, إلى زهور كثيرة نزرعها على قبور شهدائنا, الخ)

باختصار: هنالك معركة حقيقية ودامية, بين العالم الذي بلا تاريخ, أقصد بلا تاريخ من حجارة وأساطير, وبين عالمنا الذي يموت برغباته الدفينة في اشتهاء الماضي الذي يتأسطر فينا يوما بعد يوم.

تصوروا أن نبتة كهذه كانت حية فعلا, لا تصدقوني, فقط حاولوا التخيل : عالم كامل.. حياة ترتحل عبر الصحراء, بين قطعان البافالو وذئاب القيوط والباحثين عن الذهب , وأمام كاميرات هوليوود, ومن ثم تواصل رحلتها إلى المجهول.

عبث..

لا تحاولوا التخيل, فقط "إبقوا على الخط"!

:: ::

عينان من عسل, تحيلان قلبي إلى قبضة مطبقة بإحكام تهتز بالتوتر, مطبقة كشفتان تلمّان الندم في صعقته الأولى.

عند الظهيرة ,أثناء "ترويحة" المدارس, تضج الحناجر بالهتاف ويرتعد الجيش والشرطة, تتأجج نار الهتاف في العروق تماما حين يصطبغ الشارع بالأخضر: مئات المراييل المدرسية الخضراء التي تخفي تحتها تكورا أسمرا آخذا في التكون, تصيب عروق المدينة بالصرع, يجن المشهد, نظرة من عينين سوداوين, عسليتين, بنيتين, خضراوين, يا الله كم يطيب الموت أمام لون الأنثى, وكم يطيب حمل الجبيرة في صباح اليوم التالي على الصدر.. ينتهي مرور الأخضر الذي يشعل, فيصير المشهد أقل كثافة وأكثر وضوحا, تتسم المعركة بالغبار والغاز الذي في الحلق, العرق والدم الذي يبلل الملابس الشتوية من داخلها, "رائحة الانطلاقة تفوح منك يا رفيق" أضحك من قلبي وأزداد جنونا وحياة واقترابا من الموت, ,أقبض على ذكرى الومضة العسلية فتنداح الأحلام كأن السماء تمطر نجوما, سور القدس المضاء بالأصفر, صرخات الفرح في الشوارع, الانطلاقة تنتصر هذه السنة أيضا, يخيم ظلام بهيج وحار على الشوارع المبلولة بالمطر, وتبقى ظلال مبهمة تتماوج على الضوء البرتقالي للاطارات المشتعلة, وفي الهواء رائحة الدهان الطازج الذي يحيل المدينة الى قصيدة حب بالأحمر :"عاشت الذكرى, والمجد للشهداء البواسل"

:: ::

حين يعتاد الإنسان الارتحال عن الأمكنة, يصبح مكانه الخاص في داخله ربما, لهذا لا تستطيع الاسترسال في الكتابة سوى في الظلام وفي الهدوء المطبق الذي لا يكسره سوى الأغنية, أنت تصنع مكانا في داخلك كي تستبدله بالخارجي المتغير باستمرار, أنت تصنع عالما جوانيا كي لا تموت من كل هذا البرد والجنون الذي ينصب على أم رأسك. حين أقول "كي لا تموت" أقصد: تموت وحدة.

في يوم ما, بعد أن تكون قد سكرت حتى الثمالة من جوانيتك : ستجن, وسيطاردك الأطفال في الشوارع.. مجنون

:: ::

تغرق الدنيا كلها في القلب المتوتر الذي يشبه القبضة المشدودة عن آخرها, ينتهي احتفال المدينة بال"انطلاقة" , ينتهي مساؤنا بإحصاء الخسائر, الرفاق الذين اعتقلوا, أولئك المصابين, وأولئك الذين اختفت آثارهم منذ مظاهرة الظهيرة, أحفظ في القلب هذه القائمة, وأطوي إحصائية الأعداد المباعة من "الطليعة" وتلك المرتجعة, ينتهي يوم الانطلاقة, أعود إلى بيتي فلا أنام.. العينان اللتان من عسل تضيئان داخلي بالمبهم الجميل الحارق, فلا أنام.

:: ::

أنت الآن هنا, أمام الجدار الأبيض الذي بلا أغان, وبلا أشعار, لم تعلق بعد صورة الشيخ إمام, لم تحدد بعد أين ستضع الكمبيوتر, أين سيكون السرير, أين ستعلق قميصك, أنت الآن تبحث عن "جدار يصلح لان تسند رأسك إليه وتبحر في الاشتياق إلى شيء ما, إلى ماض ما " لكنك لا تفلح , مؤقتا.

لم يمتلئ مكانك الجديد والبارد بعد, لازال فارغا سوى من الأثاث ورائحة الطلاء و .. منك!

يخال لك أحيانا أنك في طريقك نحو المكان الذي ستموت فيه يوما ما تخسر شظايا روحك: أنت توزعها بالتساوي على الأمكنة التي تحل فيها, تكتب مقاطع من شعرك على الجدران, في الشقة القديمة كتبت عبارة من "المتشائل" على الباب , تقول:

"لقد رأيت يعاد.. لقد رأيت عشرين عاما من يعاد دفعة واحدة!"

كل هذا مؤقت

أصلا أنت تقضي حياتك في المؤقت, ليس للمكان الثابت مكان ثابت في وجدانك, أنت فقط ترتحل ومن ثم ترتحل, وفي طريقك من الارتحال لآخر تحلم بأن تمتلك يوما أمتارك الخمسة المربعة التي ستنشئ عليها "امبراطوريتك " : باب له مفتاح تضعه في سلسلة صغيرة في جيبك, مكتبة صغيرة تضيق بفوضى الكتب والأشرطة, : زجاجة عرق, القليل من الثلج وأكواب ,أصيص تزرع فيه وردة, سرير ومنشفة حمام تلقي بها على السرير كي تقول يوما: أنا أفعل كما يفعل موسى, مثلا.

ابق على الخط.. تمسك بشعار ما, أي شعار , غن يا أخي !! فقط إبق على الخط, لا تفقد عقلك الآن!

احكِ عنها

:: ::

"أموت عشقا", قررت أنني قد عشقتها, وكنت قد وفرت قلبي دائما بانتظار الحب الأول, كنت أقول لنفسي: لا تحبّ, إياك أن تحب إلا من تستحق أن تكون حبك الأول, ستموت كمدا إن أحببتها فجاءت "فشنك". فلماذا أحببت التي عينيها من عسل؟

نظرت إلى قلبي فكبر وصار حيوانا يمارس طقوس الانذباح أمام النار المقدسة, رمضان والمطر والسور والضوء الأصفر, والغاز. العاشر من شباط و نشيدنا, وعينيها, والمريول الأخضر, والغاز, وعينيها , وجريدة الطليعة, والمريول الأخضر, والدم الذي على باب مطعم أبو حسن. بهاء ونايف و جوزيف كتومة ومحمود السنجلاوي في مشفى المقاصد, وعينيها, والجنود المحاصرين في عمارة نسيبة, والحجارة, واضطرابات الأخبار, موسى أبوعيد استشهد, أبو صليبا وابو العز معتقلان ومعهما رفاق آخرون, عينيها, المستعربون يكمنون في محيط مدرسة المأمونية, والرفاق يتجمعون في نهاية المعركة أمام مشفى المقاصد. يا إلهي.. أنا أجن بها, لا يهم كم أموت الآن: المهم رأيت النجمة الصغيرة في حدقة عينها التي من عسل, كانت تفتح عينيها عن آخرهما.

صارت التي عينيها من عسل تشبه القدس

كنت فيما مضى أقيس حبي للأشياء بحبي لمدينتي, الآن صرت أقيس حبي بالتي عينيها من عسل صرت أقول مثلا : أحب القدس تقريبا مثلما أحبها.

:: ::

الشارع المحايد يبتلع روحك, من الأفضل هكذا, أحيانا يصير الألم فوق طاقتك العصبية فلا تحس به

أو بغيره !

:: ::

اقتباس

كان رماديا وطويلا, وعيناه حزينتان, كان صامتا.
هي, كانت تكره صمته.. "جبان", كانت تقول لصاحباتها, "وسيم لكنه جبان, أنا لا أحب الجبناء"
لم يفتح فمه أبدا, كان يكتفي برؤيتها.. وحين كانت تعبر الشارع متجاهلة نظراته,, كان ينطوي بحزن على نفسه كوردة على إسفلت قذر. ويذهب ليركض في الخلاء, يغني موالا طويلا كالعطش, ويبكي مع الريح
اقتحم, مرة, حاجز الموت, وظل صامتا..
اقتحم حاجز الشرطة, جسد بشري, سقط على الإسفلت كوردة ذابلة, وفي عينيه المطبقتين :عينيها.

بئر السبع المركزي/قسم 1
أيار1994

:: ::

لماذا تشب الذكريات كحريق في المكان الجديد الذي لم تعتد عليه بعد؟

لماذا تحترق بهذا الاشتياق إلى ماض, أي ماض ؟

أن تحن إلى جذر ما هو أمر ليس سيئا بالمطلق, لكنك تدرك أن الأمور لا تقاس هكذا, وتدرك جيدا أن هذا آخر ما تحتاجه في غرفة لم تعرف بعد أين ستنزف أحلامك فيها.

:: ::

عينيها.. عينيها

:: ::

الأماكن الجديدة بيضاء دائما, مضاءة بإحكام يخنق, كأنما رحلت عنها الأحلام على عجل, والصمت فيها محايد, يعني لا هواء يهز قشور الطلاء فيها سوى وجيب قلبك أو الصدى المنبعث من جدران الغرف الفارغة والباردة والتي تتوثب للإطباق عليك.

الأماكن الجديدة مشمسة كثيرا, فيها الكثير من الضوء المبهر والقاحل, نوافذها كبيرة, حيطانها من طوب غير سميك, وتضاء بالفلورسنت الذي يشبه أغطية المشافي, شواهد القبور, والاجتماعات التي تقيمها المؤسسات التنموية في يوم التنمية العالمي, يوم الاهتمام بشجرة الخوخوبا, عام الاهتمام بالبيئة..

"حفلة على غفلة "باختصار.

الأماكن الجديدة, بيضاء كثيرا, تذكر بحائط التخيلات الذي حدق كل معتقلو المسكوبية المشبوحين فيه, بعضهم فتح طاقة للتخيلات هنالك فنسي وجع الأقدام والظهر, فصمد بالتالي. والبعض الآخر لم يستطع أن يرى سوى الحائط الأبيض والقاحل, كما أرادوا له, فاقترب خطوة من الانهيار.

:: ::

قبضة ترتعش في البرد, في ساحة معتقل المسكوبية, هي قبضتي بلا شك, البرد المتآمر كما كل الأشياء, يفقدني إحساسي بأطرافي. أكاد أنهار على الأرض المصبوبة من اسمنت, المصبوب فوقها ماؤهم ودم وأسنان وبقايا نظارات طبية للذين سبقوني, المنصب فوقها مطر السماء, المنصب فوقها ظلي..تحت شمس من كهرباء, أكاد أسقط, فأتمسك بقامتها , يا الله, كأنها مشدودة بحبل إلى السماء, كيف يستطيع جسد بشري أن ينتصب كنخلة طيلة الوقت؟ علميني, كي استطيع الانتصاب مثلك, أن أربك جبيني بالقمر, علميني كيف أغني كل القصائد التي حفظتها وأدفئ ضلوعي, اصعدي فيّ, انهضي في ضلوعي وردة من لهب!!

لم يمض على "شَبْحي" هنا سوى ساعتين

أكاد أسقط فأقول: لم أعرف بعد اسمها, سأصمد فقط لكي أخرج,, فقط لكي أستجمع شجاعتي وأقف أمامها, أنتزع قلبي وأضعه على باب بيتها. فقط أعرف اسمها وأموت, فقط أسمع صوتها, فقط أعرفها باسمي حتى تراني مكتوبا ذات يوم على الحائط الذي قرب بيتها, الشهيد الرفيق, فقط كي أرسم قلبا يخترقه نصل على طرفه حرف لاتيني يشير إلى عينين تربكان المدينة وتشعلان الجنون والصهيل في ضلوع الشوارع.

لن أعترف, هم يثرثرون وأنا أفكر بالوردة التي تستوطن قلبي وتعرش في كلّي , في القامة المشدودة نحو الشمس بخيوط لاترى, في النجمة التي تلتمع في قطرة العسل التي في عينيها.

أسقط على الأرض, فينهال "تسيون عزرا" على رأسي بالركلات, ركلة أخرى في المعدة, وواحدة على الجبين, صار رأسي ساخنا كمرجل , أضواء الكشافات تعمي عيوني, السماء صارت حمراء, الحيطان أيضا صارت حمراء وسائلة, والأرض, ووجهي, وبسطار تسيون عزرا, أرش دمي في ليل القدس البارد فأنتشي بالعينين ويغور الألم في عمق البطن, عينيها تضيئان الليل والدم الذي في العروق وخارجها, الدم الذي يختلط بالقاع اللزج لبسطار البغل الذي بعمر والدي ويركلني.

لماذا تفقأ قلبي الذي هي فيه وردة يا تسيون, ماذا فعلت لك فتاة عينيها بلون العسل كي تكسر القلب الذي يحتضنها؟

يلح عليّ السؤال هنا, وفي الزنزانة, وفي الزنزانة الأخرى, وفي الزنازين التي تليها, تتزاوج الزنازين وتتحد, ولا ينكسر قلبي من وطأة البساطير

اتخذت قراري: سأخرج كي أسألها عن اسمها

ما اسمك كي أقدسه

اسمك

قبل أن يموت قلبي هنا

اسمك!!

:: ::

حين ارتحلت, عبأت أغراضك كلها في صناديق من كرتون, وقلت لنفسك: روحي أيضا مخبأة في صندوق كهذا, صندوق مغلق بإحكام, تقطع على روحك عهدا بألا تفتح صندوق الكرتون الذي يحوي روحك إلا في مكانك النهائي, وتصلّي للشياطين: فليكن مكاني النهائي هو الأول!

:: ::

حين ارتحلت, عبأت أغراضي كلها في حقيبتي وابتلعت الرسائل, ومضيت, من سجن إلى آخر, أزرع عينيها وردة في أحلام الرفاق في الغرف التي حللت فيها جذوة من عطش إلى عينين تشبهان سماء يختلط فيها الآخضر بالبني. وصية الرفاق كانت دائما : اخرج ولا تنس أن ترسل لنا وتحدثنا: هل التقيت بها ؟

:: ::

عينيها!

:: ::

عينيها العسليتين تنظران إلى داخلك, كما في المرة الأولى, فتموت, الدبلة التي في يمينها تغشى على عينيك فلا ترى من القدس سوى نهار أبيض وقاحل يشبه الفلورسنت, تجول بنظرك في الشارع فترى القصة ذاتها تتكرر, الشارع يغرق بالأخضر, تشتعل عروق الرفاق "الصغار" وتجن المدينة, ويتصاعد المسيل للدموع, تدرك كم تستطيع المدينة والفتاة والمكان الأول أن يرتكبا فاحشة الإماتة, أكثر من بسطار تسيون عزرا , فتجهش بالبكاء.

يستغرقك الموت: قد يأتي يوم تصل فيه إلى مكانك الأول , تمزق الكرتون بحثا عن روحك لتجدها قد تكسرت من كثرة الترحال!

تمسك بمقص كبير وحاد, كالذي يستخدم في تشذيب الأشجار, تقص جذورك ثم تتكور حول بطنك في الليل كجرو يتيم ومذنب, صرت الآن تشبه نبتة شوكية تتدحرج بين أقدام أي ممثل من الدور الرابع يلعب دور راعي بقر سيئ الطباع في مشهد كاوبوي مكرور

الموظوع مش بإيدي يخوي...

اخرس, لا تفقد تماسكك الآن وتوقف عن الكتابة وحشش

:: ::

لماذا الأماكن الجديدة باردة وبيضاء

لماذا الجذور غير ضرورية بالمطلق؟

لماذا هو مريول أخضر دائما؟

لماذا لا أعود إلى طرفي القصي, داخلي؟

ولماذا هو مريول أخضر دائما؟

ولماذا سوف أجن حتما؟

لماذا, بحق الروح التي تجوع للنار, وتعطش دائما لمطر دافئ كمطر العاشر من شباط, هو مريول أخضر دائما؟

الخميس، سبتمبر 02، 2004

الميتوس المكسور:إنتصار جزئي.. هزيمة ساحقة



في زمن الأساطير , كان على الملك مينوس أن ينتظر بشرى انتصار إبنه "ثيسيوس"على "المينوتور" على هيئة شراع سفينة أبيض يرتفع في مدى إيجة.
عشق ثيسيوس أميرة كريت التي ساعدته على قتل أخيها "مينوتور"- نصف الثور ونصف الرجل- , فنسي رفع الشراع في طريق العودة, وانتحر مينوس بالقفز من فوق صخرة على شاطئ "ميتوس".
في الوجدان الإغريقي, فالبشري, صارت الميتوس تعني الأسطورة, لكنها ليست تعريفا مجردا للحكاية التي تفوق الخيال, هي أسطورة ملآى بالدم, عصية على الكسر. هي حقيقة ثابتة دون أن تثار الحاجة لإثباتها, ودون أن يتمكن المنطق المجرد من تجريدها من "واقعيتها", أمرا يشبه "الله" مثلا.
تبقى مسائل "التراجيديا" في بعدها الجمعي, واحدة وثابتة رغم تباعد الأزمنة. ويبدو أن الفلسطينيين يستمدون في لحظة الهزيمة التاريخية التي تمتد على امتداد وجودهم , بعضا من تراثهم الكريتي, فالذاكرة الجمعية تنتقل في المجتمع البشري كالشفرة الوراثية, وحكمة المهزوم, التي نبرع كفلسطينيين, في التفلت منها والتشبث بأهداف إيفوريا الانتصار,هروبا منها, لم تستطع حتى اللحظة أن تنقذنا من غيلة جنون الخطاب البونابارتي الذي يبرع الطرفان الأقوى في الثورة, لحظيا (السلطة والأصولية الإسلامية) في أدائه.
معركة الأمعاء الخاوية انتهت, ولما نعد خسائرنا بعد, والصورة في طريقها للإتضاح, بالرغم من كل هذا الفراغ الملون الذي يسبغه "قادة الثورة" على نتائجها *
في جدلية النضال اليومي, التأقلم الرافض, الاشتباك اليومي مع العدو الذي يتحكم بمساحة الضوء و جرعة الهواء المسموحة, يبدأ المعتقلون الفلسطينيون معركة جديدة, بقوانين جديدة كليا.
هذه الأرض المحروقة تحت اقدام المعتقلين ومن حولهم تشير إلى الهزيمة الأخلاقية التي منيت بها الحركة الأسيرة, هزيمة في صميم "ميتوس"التراث الثوري في فلسطين, ذلك الميتوس الذي يتحدث عن " عصيان الحركة الأسيرة على الكسر" بالاستناد إلى كون الأسرى يقفون أمام جدار أخير لا يمكن التراجع عنه.
بالتأسيس على هذا الميتوس, تمكن المعتقلون الفلسطينيون من انتزاع عشرات الامتيازات من أشداق المخابرات الصهيونية التي كانت تدير العملية الاعتقالية بأسرها. هذا الجهاز الذي كان يواصل حربا ممنهجة على أجساد ونفوس المعتقلين بهدف إخضاعهم, و جند لعملية الاخضاع المتواصل هذه الكثير من قدراته وطواقمه. شملت العملية على مدار سنين طوال تدخلات مخابراتية في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمناضل المعتقل, بدءا من اختيار نوعية الطعام المقدم , و تصميم السجون وساحاتها الداخلية وغرف الزيارة, إلى التدخل في "من" و "كيف" يزور المناضل المعتقل.
عبر سنين طوال, وبالاستناد إلى عقلية "ليس لدينا ما نخسره" تمكن المعتقلون وعبر معارك دموية ومريرة مع واجهة المخابرات (خدمات إدارة السجون العامة) إقامة جمهورياتهم الخاصة داخل المعتقلات, بدءا من الثمانينات, مثلا, صار على مدير المعتقل الصهيوني أن يقدم طلبا شفهيا مسبقا, على صيغة إعلام قابل للتشاور, إلى نظيره الفلسطيني (ممثل المعتقل) لدى إجراء أي تغيير ذي معنى في حياة المعتقلين اليومية. تمكن المعتقلون عبر حركاتهم المطلبية من التوصل إلى وضع يُسمح فيه بإدخال تلفزيون إلى كل غرفة مساجين محكومين, إدخال مواد غذائية وكتب وصحف و تمكين المعتقلين من تقديم امتحانات الثانوية العامة داخل معتقلاتهم, بل والتقدم لشهادات جامعية من داخل السجون.

لم يكن أمام الجهاز المخابراتي الصهيوني سوى الإذعان أمام مطالب المعتقلين, إذ أن الحركة الأسيرة كانت فيما مضى تحرك الشارع الفلسطيني بأكمله,وكانت حالة التوازن هذه التي يتقدم عبرها المعتقلون الفلسطينيون بحذر من انجاز إلى إنجاز دون الإخلال بحالة يثبت فيها التوتر عند نقطة معينة تحددها الحركة الأسيرة نفسها,نقطة على شفى التفجير, وفي طرف التفاهمات اليومية القابلة دوما للتغيير وفقا لإرادة المناضلين. وكانت الحالة تجد أعداء يوميين لها في الطرف الإسرائيلي.
كان على هذا "الميتوس" أن ينكسر, ووجدت مخابرات العدو في "إتفاق أوسلو" منفذا يمكن لها أن تكسر عبره ظهر الحركة الأسيرة وتثني إرادتها.
بغباء مطلق وافق عرفات (إبن الستين شرموطة) على آلية تفريغ للمعتقلات من أكبر قدر من "الميتوس" مع أقل قدر ممكن من البشر. لذا, فقد اشترطت اسرائيل على السلطة أن تطلب من إسرائيل (نعم.. هذه هي الصيغة المقصودة, رغم ما يبدو عليها من ارتباك) أن يقوم المعتقلون الفلسطينيون بالتوقيع على وثيقة العار, وهي الوثيقة التي يستنكر من خلالها المعتقل ما قام به من "أعمال إرهابية", و يتعهد عبرها بـ"دعم جهود العملية السلمية".
بعد هذه الخلخلة التي أصابت وحدة الموقف في الحركة الأسيرة في صميم مشروعية وجودها ونضالها, منهجت المخابرات الصهيونية آليات عزل القيادات الأسيرة وتحويل المعتقلات إلى تجمعات بشرية فاقدة لروح الجماعة, وبعيدة كل البعد عن التقاليد الثورية, ونجحت إلى حد بعيد في ما ترمي إليه, وبالإمكان القول أن نتائج هذا كله قد تبدّت في إضراب الـ95 حيث ظهر التشقق في جدران ما اصطلح على تسميته ب" القلاع الاعتقالية" التي حلت محل تسميات "السجون".

يتبع
_____
*صرح هشام عبد الرازق, وزير شؤون الاسرى, مثلا أن المعتقلين قد تمكنوا من تحصيل 90% من مطالبهم, لكنه أكد, في المقابل أنه لا يعلم شيئا عن حقيقة الاتفاق الذي قال بأن القيادة المعزولة قد تمكنت من عقده مع سلطة السجون الاسرائيلية